تعد جرائم الأموال من أكبر المهددات للاقتصاد والأمن المجتمعي على مستوى الدول وكذلك على نطاق الأمن والاقتصاد العالمي؛ كونها تعمل على تقويض الأسس التي تقوم عليها المعاملات المالية وقيمة العملات، وما يوازيها من رصيد المعادن النفيسة ونظام سلة العملات، الذي تعتمده الدول كمقابل لإصدار العملة وحجم السيولة في مختلف الدول. وبالرغم من تعدد مخاطر الجرائم المالية فقد زادت خطورتها مؤخراً نتيجة لما استجد من تطور في عالم الإجرام نتيجة نشؤ العملات المشفّرة والتحويلات الافتراضية والتوسع في استخدامات التقنية الرقمية وخوارزميات العالم السيبراني، بل لقد اتخذت هذه الجرائم ملامح جديدة أشد خطورة وتجاوزت ما كان عليه الحال في السنوات القليلة الماضية بمعدلات قياسية. وتمثل الجرائم المالية منظومة واسعة تشمل السرقة والاحتيال والخداع والابتزاز والفساد وغسل الأموال وتجارة المخدرات، ويرد توصيف هذه الجرائم في تقارير منظمة الشرطة الجنائية الدولية "الإنتربول" باعتبارها وسائل غير مشروعة لكسب المال بمقادير كبيرة يُرجّح استخدامها في جرائم أخرى أكبر خطراً وضرراً.
ومن سوء الطالع فإن الكثير من أصناف هذه الجرائم تتم بوسائل غامضة بعيداً عن الأضواء وعبر عمليات وهمية مزيفة وأحياناً بتواطؤ كبير بين الأطراف المتداخلة فيها، ويؤدي ذلك إلى صعوبة ملاحقتها بالسرعة والتصدي اللازمين نسبة لتطور أساليب الجريمة المالية عبر الوسائط الاتصالية الحديثة، واستخدام التمويهات التقنية والرمزية والتشفير الذي يزيد من صعوبة ملاحقتها. كما أن الذين يقومون بهذا النوع من الاحتيال المالي ليسوا من صنف المجرمين العاديين الذين تدفعهم الفاقة أو انخفاض مستويات التعليم والجهل بإدراك التبعات، فمن يقومون بالجرائم المالية حالياً هم في معظم الأحوال أفراد ومجموعات من المتعلمين ومن الطبقة الوسطى وما فوقها الذين يتابعون حركة الأموال، ويملكون المقدرة على تصيّد الثغرات ويتمتعون بمهارة إجرامية في التحايل على القوانين والتزوير وإخفاء آثار ما يقومون به من عمليات إجرامية، حيث تصفهم الأدبيات الصحفية بأنهم ينتسبون إلى فئة أصحاب "الياقات البيضاء".
لقد ألقى عامل الإرهاب العالمي وتجارة المخدرات والهجرات غير المشروعة والاتجار بالبشر بظلال سالبة على مكافحة جرائم المال، وزاد من مخاطر انتقال المال بصفة غير مشروعة من مكان مجهول إلى أخر عبر الاحتيال والابتزاز، وأضحت جرائم المال تشكل تهديداً مباشراً على الأمن الدولي بالإضافة إلى تأثيرها المباشر على اقتصادات الدول وموازناتها، وتشيع مناخاً سالباً على التداولات المالية وحرية التجارة العالمية وشفافية المعاملات المالية التي تمثل جزءاً أساسياً من حركة الاقتصاد العالمي.
إن الجرائم المالية تتم في أحيان عدة من خلال عمليات متسعة النطاق تخترق العديد من الأنظمة، وتشترك فيها مجموعات وشبكات متناغمة في أقطار متباعدة وقارات شتى، عبر تحويلات مشبوهة تتخطى حدود الزمان والمكان، بما يشكل بعداً أخر من أبعاد خطورة هذه الجرائم وصعوبة ملاحقتها. ويشترك في هذه الجرائم أفراد ومجموعات خارج أجهزة الدولة وأحياناً من داخلها، ويتم كثيرٌ منها عبر المصارف الخاصة والحكومية، وتبدو بعض هذه العمليات الإجرامية وكأنها معاملات مشروعة تتم عبر مصارف رسمية ووفق القوانين السائدة؛ وهي في حقيقة الأمر تقوم باستغلال ثغرات القوانين واللوائح والتسهيلات التي تعتمدها بعض الدول والمؤسسات المالية لتيسير الاستثمار أو تشجيع حرية المعاملات المالية، من أجل استقطاب رؤوس الأموال وإتاحة فرص الادخار وغير ذلك من التسهيلات التي تقدمها المصارف المتنافسة، لذا يتوجب على الحكومات والمصارف القيام بإجراءات احترازية أكثر صرامة ومراجعات إصلاحية لسد هذه الثغرات، وإحكام الرقابة على انتقالات الأموال لاسيما الضخمة منها، والتي يمكن استخدامها في جرائم أخرى أكبر خطراً مثل جرائم الإرهاب والاتجار بالبشر وعالم الجريمة المنظمة وتجارة المخدرات.
لا يمكن التقليل من خطورة الجرائم المالية على الصعيد القُطري والعالمي؛ لأن لها آثاراً اقتصادية واجتماعية وخيمة وأضراراً بعيدة المدى، كما أنها ترتبط مباشرة كما أشرنا بالإرهاب والعنف والتطرف والجريمة المنظمة. ولذات الأسباب فإن من الواجبات الملحة والعاجلة أن ينشأ تنسيق إقليمي ودولي وأممي من الدول والهيئات العالمية والتنظيمات الإقليمية للعمل على تبادل المعلومات والبيانات والخبرات، والتعاون في متابعة وملاحقة هذه الجرائم واقتراح التشريعات القطرية والدولية، التي من شأنها تشديد الرقابة على الشبكات العاملة في مجال جرائم الأموال العابرة للحدود، ويتطلب ذلك بناء الخبرات والقدرات للجهات الشرطية والعدلية العاملة في مجال إنفاذ القانون في جميع الأقطار.
ونحن في المنظمة "الإنتربول" نستشعر دورنا في هذا المجال، ونعمل بإستراتيجية تجمع بين الدعم الفني وبناء القدرات للدول الأعضاء واطلاع مؤسساتها الشرطية والجمركية والرقابية ودوائر الهجرة وجهات إنفاذ القانون على أحدث البيانات الخاصة بالأساليب الإجرامية المبتكرة في هذا المجال، حتى نغلق الكثير من الأبواب في وجه مرتكبي الجرائم المالية.
وتولي المنظمة "الإنتربول" أيضاً اهتماماً متصاعداً بقضية العملات المشفرة وغسل الأموال، ولها أنشطة دورية وشراكات عالمية في هذا المجال، كما أن المنظمة "الإنتربول" تحث على بناء الشراكات بين القطاعين العام والخاص لتوحيد جهود مكافحة الجرائم المالية، ومتى ما اكتملت حلقات التعاون الدولي والإقليمي والأممي لمجابهة هذا النوع من الجرائم الخطيرة فعندها سيكون باستطاعتنا جعل مساعي المجرمين أكثر صعوبة وعسراً.
اللواء الدكتور أحمد ناصر الريسي، المفتش العام لوزارة الداخلية